الانسحاب الأمريكي من أفغانستان- دروس في الهزيمة وغواية التاريخ

المشهد السيميائي، وبكل ما يحمله من دلالات، قد لخص ببراعة فصول الانسحاب الأمريكي المثير للجدل وتداعياته المتلاحقة في أفغانستان خلال الأيام الأخيرة. هذا الانسحاب، الذي أثار عواصف من ردود الأفعال، طال جوانب متعددة سواء من الجانب الأمريكي أو من قبل حركة طالبان، وصولًا إلى الحكومة الأفغانية المتعثرة. فبعد عقود طويلة سعت فيها واشنطن جاهدة للتخلص من شبح عقدة فيتنام، ها هي اليوم ترزح تحت وطأة عقدة أفغانستان المشؤومة، ولكن هذه المرة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وأمام عدسات منصات التواصل الاجتماعي العالمية. هذه العقدة الأخيرة، بشهادة ثلة من الخبراء والكتاب الأمريكيين، تبدو أفدح خطرًا، وأبعد أثرًا، وأعمق غورًا.
صحيفة النيويورك تايمز العريقة اختارت عنوانًا رئيسًا يصف الوضع الراهن بأنه "نهاية العصر الأمريكي"، بينما ذهبت صحيفة الإندبندنت البريطانية إلى أبعد من ذلك، واختارت عنوانًا أكثر حدة وإيلامًا، حين صرخت قائلة: "إذلال الغرب في أفغانستان اكتمل الآن".
الصور المروعة للعملاء الأفغان الذين تشبثوا بكل ما أوتوا من قوة بأجنحة الطائرات، وبحوافها الحادة وهم يركضون بيأس أمامها، علّها تتوقف للحظة خاطفة وتقلهم معها إلى بر الأمان، كان مشهدًا مأساويًا لم نشهده حتى في أكثر الأفلام الهوليودية درامية. هذا المشهد يختزل بمرارة الانسحاب الأمريكي المتسرع الذي حلّ كارثة مدوية على واشنطن، وأشعل نار الخلافات والانقسامات الداخلية، لدرجة دفعت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى مطالبة بايدن بالاستقالة الفورية.
مشاهد إقلاع المروحيات الأمريكية من سطح السفارة الأمريكية في كابول أعادت إلى الأذهان صورًا مؤلمة من الماضي، وتحديدًا صور المروحيات الأمريكية المماثلة من على أسطح السفارة الأمريكية في سايغون عام 1975. لكن المشهد الأفغاني تفوق على نظيره الفيتنامي في حالة الهرج والمرج التي أودت بحياة بعض الأفغان المتعاونين الذين كانوا يتوقون للفرار. الجنود الأمريكيون، في محاولة يائسة لتفريق الجموع المحتشدة التي كانت تتمنى الهروب بأي ثمن، أطلقوا النار في الهواء، ليتحول المشهد إلى مأساة حقيقية، ويسقط منهم أربعة قتلى.
مشاهد العملاء المتشبثين بأجنحة الطائرات، المتشبثين بأمل زائف بالخلاص، كانت تجسيدًا للانسحاب الأمريكي المفاجئ الذي جر على واشنطن ويلات جمة على كافة الأصعدة. فداخليًا، أثارت هذه الأحداث خلافات وصراعات حادة وصلت إلى حد مطالبة الرئيس السابق ترامب باستقالة بايدن، محملًا إياه مسؤولية الكارثة التي حلت بالأمريكيين. أما الكارثة الجيوسياسية، فهي الأعمق والأبعد تأثيرًا، حيث يرى العديد من الخبراء أن دولًا عديدة حول العالم ستعيد تقييم علاقاتها مع الولايات المتحدة، بعد تخليها عن 20 عامًا من الجهود المضنية، والتي أنفقت خلالها ما يقرب من 3 تريليونات دولار، وفقًا لوثائق نشرتها صحيفة الواشنطن بوست، بالإضافة إلى خسارة أكثر من 2500 جندي أمريكي، و60 ألف جندي أفغاني، فضلًا عن أعداد لا تحصى من الجرحى والمعاقين.
المشهد السيميائي الذي ربما غاب عن لحظة سايغون، لكنه تجسد بكل تفاصيله في لحظة كابول، تمثل في هروب قادة التحالف الشمالي البارزين، مثل الجنرال عبد الرشيد دوستم ومحمد عطاء، إلى أوزبكستان المجاورة، تاركين وراءهم أتباعهم ومؤيديهم على جسر حيرتان أو جسر الصداقة، الذي بنته روسيا في فترة غزوها لأفغانستان.
الصور التي التقطتها عدسات الكاميرات وثقت لحظات من الضياع والفوضى العارمة التي عاشها الآلاف من الأفغان اليائسين على امتداد الجسر. الجنود، في حالة من الهلع والذعر، تركوا خلفهم عرباتهم العسكرية، ودباباتهم، وممتلكاتهم الشخصية، وحتى أحذيتهم، وهاموا على وجوههم في القرى والبلدات المجاورة، محاولين الاندماج مع السكان المحليين والاختفاء عن أعين حركة طالبان. لكن أوزبكستان أغلقت الأبواب في وجوههم، وتخلى عنهم قادتهم، لتكتمل فصول المأساة.
في المقابل، وعلى النقيض تمامًا من هذه الفوضى العارمة، شهدت العاصمة كابول دخولًا منظمًا لمقاتلي حركة طالبان إلى المدينة والمدن الأخرى في جميع أنحاء البلاد. الحركة أبدت حرصًا استثنائيًا على الحفاظ على المنشآت العامة، وكان أول عمل قامت به هو تلاوة سورة النصر في القصر الرئاسي. القائد العسكري فصيح الدين الطاجيكي، الذي قدم على عجل من بدخشان شمالي أفغانستان، حيث معقل الجمعية الإسلامية التي كانت تشكل عصب الحكومة الأفغانية، تصدر المشهد، لتدحض حركة طالبان بذلك الاتهامات التي كانت توجه إليها بأنها حركة بشتونية شوفينية تسعى للاستئثار بالسلطة لصالح عرقيتها البشتونية. ومن خلف مصباح الدين، كان المقاتلون يرتدون قبعات وعمائم تعكس تنوع وفسيفساء الشعب الأفغاني، لتبعث الحركة بذلك رسالة واضحة للداخل والخارج مفادها أنها، بقدر ما سيطرت على الجغرافيا، فقد سيطرت أيضًا على الديمغرافيا الأفغانية، وعلى قلوب الأفغان.
لحظة كابول ربما طمست من الذاكرة العالمية لحظة سايغون، لكن تأثير الماسح يبقى أقوى وأكثر فداحة من تأثير الممسوح. حجم الانهيار الأمريكي هنا يكمن خطره وتأثيره في قيادة أمريكا لتحالف دولي يضم 38 دولة، تشعر كل دولة فيه اليوم بأنه قد تم التخلي عنها، وهو ما انعكس على تصريحات كبار المسؤولين العسكريين الغربيين. الجنرال السير ريتشارد بارونز، الرئيس السابق لقيادة القوات المشتركة في بريطانيا، وهي قوات تضم تشكيلات البحرية والجوية والملكية والجيش، عبر عن هذا التوجه بقوله: "لا أعتقد أنه من مصلحتنا، أعني أننا باتخاذ قرار الرحيل، لم نقم فقط -على ما أعتقد- ببيع مستقبل أفغانستان ودفعه نحو وضع شديد الصعوبة، وإنما أرسلنا بذلك رسالة مؤسفة حقا إلى حلفاء الغرب في منطقة الخليج وأفريقيا وآسيا". وترافق تصريحه هذا مع مقال نشره وزير الخارجية البريطانية السابق ويليام هيغ في صحيفة التايمز البريطانية وصف فيه قرار بايدن بالانسحاب بأنه "خطأ رهيب" وأن "الكارثة تلوح في الأفق". وانضم إلى حملة الانتقادات الجنرال الأمريكي المتقاعد ديفيد بترايوس، الذي كان مهندس مكافحة التمرد في كل من أفغانستان والعراق، خلال مقابلته مع صحيفة التايمز البريطانية بداية الشهر الحالي، حين قال: "لقد تخلت أمريكا عن حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في أفغانستان، وتركت شعبها لمواجهة الحرب الوحشية الدموية الأهلية".
سيُكتب الكثير عن النجاح الطالباني والهزيمة الأمريكية، ولكن باعتقادي يكمن سر النجاح الطالباني والهزيمة الأمريكية في سر دفين ضمن أسرار عديدة، وربما يكون مجال بسطه في وقت آخر. لكن ما يهمنا الآن في هذا المقال هو الحديث عن فهم طالبان للطبيعة الحقيقية والتكوين الجوهري للدولة الأفغانية، وهي الخلطة القبلية، في حين سعت واشنطن وحلفاؤها للتعامل مع أفغانستان على أنها دولة عصرية مدنية، وهو الفخ أو الوهم الذي سقط فيه من قبل البريطانيون والسوفيات، وحتى لاعبون أفغان محليون.
ومن بينهم أمان الله ونادر خان، وستظل أفغانستان كما وصفتها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر "أرض غدّارة"، وعلى الرغم من معرفة بريطانيا وغيرها بذلك، لكن تظل قدرة أفغانستان على غواية الغدارين أقوى من إرادة الآخرين على مقاومة غوايتها.